الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (33): قوله تعالى: {قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ} فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ} أمره الله أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة ليعلموا أنه أعلم بما سألهم عنه تنبيها على فضله وعلو شأنه، فكان أفضل منهم بأن قدمه عليهم وأسجدهم له وجعلهم تلامذته وأمرهم بأن يتعلموا منه. فحصلت له رتبة الجلال والعظمة بأن جعله مسجودا له، مختصا بالعلم. الثانية: في هذه الآية دليل على فضل العلم واهلة، وفي الحديث: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم» أي تخضع وتتواضع وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصة من بين سائر عيال الله، لأن الله تعالى ألزمها ذلك في آدم عليه السلام فتأدبت بذلك الأدب. فكلما ظهر لها علم في بشر خضعت له وتواضعت وتذللت إعظاما للعلم واهلة، ورضا منهم بالطلب له والشغل به. هذا في الطلاب منهم فكيف بالاحبار فيهم والربانيين منهم! جعلنا الله منهم وفيهم، إنه ذو فضل عظيم. الثالثة: اختلف العلماء من هذا الباب، أيما أفضل الملائكة أو بنو آدم على قولين: فذهب قوم إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. وذهب آخرون إلى أن الملا الأعلى أفضل. احتج من فضل الملائكة بأنهم عِبادٌ مُكْرَمُونَ. {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26- 27] {لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وقوله: {لنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] وقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50]. وفي البخاري: يقول الله عز وجل: «من ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منهم». وهذا نص. احتج من فضل بني آدم بقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريئة} [البينة: 7] بالهمز، من برأ الله الخلق. وقوله عليه السلام: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضي لطالب العلم» الحديث. أخرجه أبو داود، وبما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، ولا يباهي إلا بالأفضل، والله أعلم. وقال بعض العلماء: ولا طريق إلى القطع بأن الأنبياء أفضل من الملائكة، ولا القطع بأن الملائكة خير منهم، لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الامة، وليس هاهنا شيء من ذلك، خلافا للقدرية والقاضي أبي بكر رحمه الله حيث قالوا: الملائكة أفضل. قال: وأما من قال من أصحابنا والشيعة: إن الأنبياء أفضل لان الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، فيقال لهم: المسجود له لا يكون أفضل من الساجد، ألا ترى أن الكعبة مسجود لها والأنبياء والخلق يسجدون نحوها، ثم إن الأنبياء خير من الكعبة باتفاق الامة. ولا خلاف أن السجود لا يكون إلا لله تعالى، لأن السجود عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله، فإذا كان كذلك فكون السجود إلى جهة لا يدل على أن الجهة خير من الساجد العابد وهذا واضح. وسيأتي له مزيد بيان في الآية بعد هذا. الرابعة: قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} دليل على أن أحدا لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله كالأنبياء أو من أعلمه من أعلمه الله تعالى، فالمنجمون والكهان وغيرهم كذبة. وسيأتي بيان هذا في الأنعام إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ} الخامسة: قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ} أي من قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} حكاه مكي والماوردي. وقال الزهراوي: ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم. {وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير: المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والمعصية. قال ابن عطية: وجاء {تَكْتُمُونَ} للجماعة، والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم: أنتم فعلتم كذا. أي منكم فاعله، وهذا مع قصد تعنيف، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] وإنما ناداه منهم عيينة، وقيل الأقرع. وقالت طائفة: الإبداء والمكتوم ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع. وقال مهدي بن ميمون: كنا عند الحسن فسأله الحسن بن دينار ما الذي كتمت الملائكة؟ قال: إن الله عز وجل لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجبا، وكأنهم دخلهم من ذلك شي، قال: ثم أقبل بعضهم على بعض وأسروا ذلك بينهم، فقالوا: وما يهمكم من هذا المخلوق! إن الله لم يخلق خلقا إلا كنا أكرم عليه منه. و{ما} في قوله: {ما تُبْدُونَ} يجوز أن ينتصب بـ {أَعْلَمُ} على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم وتنصب به {ما} فيكون مثل حواج بيت الله، وقد تقدم. .تفسير الآية رقم (34): فيه عشر مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا} أي واذكر. وأما قول أبى عبيدة: إن {إذ} زائدة فليس بجائز، لأن إذ ظرف وقد تقدم. وقال: {قُلْنا} ولم يقل قلت لان الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيما وإشادة بذكره. والملائكة جمع ملك، وقد تقدم. وتقدم القول أيضا في آدم واشتقاقه فلا معنى لإعادته. وروي عن أبي جعفر بن القعقاع أنه ضم تاء التأنيث من الملائكة اتباعا لضم الجيم في: {اسْجُدُوا}. ونظيره {الْحَمْدُ لِلَّهِ}. الثانية: قوله تعالى: {اسْجُدُوا} السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع، قال الشاعر: الأكم: الجبال الصغار. جعلها سجدا للحوافر لقهر الحوافر إياها وأنها لا تمتنع عليها. وعين ساجدة، أي فاترة عن النظر، وغايته وضع الوجه بالأرض. قال ابن فارس: سجد إذا تطامن، وكل ما سجد فقد ذل. والاسجاد: إدامة النظر. قال أبو عمرو: وأسجد إذا طأطأ رأسه، قال: قال أبو عبيدة: وأنشدني أعرابي من بني أسد: يعني البعير إذا طأطأ رأسه. ودراهم الاسجاد: دراهم كانت عليها صور كانوا يسجدون لها، قال: الثالثة: استدل من فضل آدم وبنيه بقوله تعالى للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ}. قالوا: وذلك يدل على أنه كان أفضل منهم. والجواب أن معنى: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} اسجدوا لي مستقبلين وجه آدم. وهو كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] أي عند دلوك الشمس وكقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} [ص: 72] أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين. وقد بينا أن المسجود له لا يكون أفضل من الساجد بدليل القبلة. فإن قيل: فإذا لم يكن أفضل منهم فما الحكمة في الامر بالسجود له؟ قيل له: إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم. وقال بعضهم: عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمروا بالسجود له تكريما. ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} لما قال لهم: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا، فقال لهم: {إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [ص: 71] وجاعله خليفة، فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. والمعنى: ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن. فإن قيل: فقد استدل ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]. وأمنه من العذاب بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]. وقال للملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29]. قيل له: إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه، فلم يقل: لعمري. وأقسم بالسماء والأرض، ولم يدل على أنهما أرفع قدرا من العرش والجنان السبع. وأقسم بالتين والزيتون. وأما قول سبحانه: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء: 29] فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} [الزمر: 65] فليس فيه إذا دلالة، والله أعلم. الرابعة: واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة، فقال الجمهور: كان هذا أمرا للملائكة بوضع الجباه على الأرض، كالسجود المعتاد في الصلاة، لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع، وعلى هذا قيل: كان ذلك السجود تكريما لآدم وإظهارا لفضله، وطاعة لله تعالى، وكان آدم كالقبلة لنا. ومعنى: {لِآدَمَ}: إلى آدم، كما يقال صلى للقبلة، أي إلى القبلة. وقال قوم: لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض ولكنه مبقي على أصل اللغة، فهو من التذلل والانقياد، أي اخضعوا لآدم وأقروا له بالفضل. {فَسَجَدُوا} أي امتثلوا ما أمروا به. واختلف أيضا هل كان ذلك السجود خاصا بآدم عليه السلام فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى، أم كان جائزا بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام، لقوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} [يوسف: 100] فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين؟ والذي عليه الأكثر أنه كان مباحا إلى عصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد، فقال لهم: «لا ينبغي أن يسجد لاحد إلا لله رب العالمين». روى ابن ماجه في سننه والبستي في صحيحه عن أبي واقد قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما هذا» فقال: يا رسول الله، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، فأردت أن أفعل ذلك بك، قال: «فلا تفعل فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه». لفظ البستي. ومعنى القتب أن العرب يعز عندهم وجود كرسي للولادة فيحملون نساءهم على القتب عند الولادة. وفي بعض طرق معاذ: ونهى عن السجود للبشر وأمر بالمصافحة. قلت: وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوفة عادة في سماعهم وعند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للإقدام لجهله سواء أكان للقبلة أم غيرها جهالة منه، ضل سعيهم وخاب عملهم. الخامسة: قوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ} نصب على الاستثناء المتصل، لأنه كان من الملائكة على قول الجمهور: ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وابن المسيب وقتادة وغيرهم، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن، ورجحه الطبري، وهو ظاهر الآية. قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة وكان من الأجنحة الاربعة ثم أبلس بعد. روى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطانا. وحكى الماوردي عن قتادة: أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجنة. وقال سعيد بن جبير: إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم، وخلق سائر الملائكة من نور. وقال ابن زيد والحسن وقتادة أيضا: إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن ملكا، وروى نحوه عن ابن عباس وقال: اسمه الحارث. وقال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين: كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا وتعبد مع الملائكة وخوطب، وحكاه الطبري عن ابن مسعود. والاستثناء على هذا منقطع، مثل قوله تعالى: {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] وقوله: {إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] في أحد القولين، وقال الشاعر: واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله عز وجل وصف الملائكة فقال: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] والجن غير الملائكة. أجاب أهل المقالة الأولى بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم الله بشقائه عدلا منه، لا يسأل عما يفعل، وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة. وقول من قال: إنه كان من جن الأرض فسبي، فقد روي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجن في الأرض مع جند من الملائكة، حكاه المهدوي وغيره. وحكى الثعلبي عن ابن عباس: أن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم، وخلقت الملائكة من نور، وكان اسمه بالسريانية عزازيل، وبالعربية الحارث، وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة، فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى الله فمسخه شيطانا رجيما. فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه، وكانت خطيئة آدم عليه السلام معصية، وخطيئة إبليس كبرا. والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها، وفي التنزيل: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات: 158]، وقال الشاعر في ذكر سليمان عليه السلام: وأيضا لما كان من خزان الجنة نسب إليها فاشتق اسمه من اسمها، والله أعلم. وإبليس وزنه إفعيل، مشتق من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله تعالى. ولم ينصرف، لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء فشبه بالأعجمية، قاله أبو عبيدة وغيره. وقيل: هو أعجمي لا اشتقاق له فلم ينصرف للعجمة والتعريف، قاله الزجاج وغيره. السادسة: قوله تعالى: {أَبى} معناه امتنع من فعل ما أمر به، ومنه الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله- وفي رواية: يا ويلي- أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار». خرجه مسلم. يقال: أبى يأبى إباء، وهو حرف نادر جاء على فعل يفعل ليس فيه حرف من حروف الحلق، وقد قيل: إن الألف مضارعة لحروف الحلق. قال الزجاج: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: القول عندي أن الألف مضارعة لحروف الحلق. قال النحاس: ولا أعلم أن أبا إسحاق روى عن إسماعيل نحوا غير هذا الحرف. السابعة: قوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ} الاستكبار: الاستعظام فكأنه كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته. وعن هذا الكبر عبر عليه السلام بقوله: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر». في رواية فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس». أخرجه مسلم. ومعنى بطر الحق: تسفيهه وإبطاله. وغمط الناس: الاحتقار لهم والازدراء بهم. ويروى: «وغمص» بالصاد المهملة، والمعنى واحد، يقال: غمصه يغمصه غمصا واغتمصه، أي استصغره ولم يره شيئا. وغمص فلان النعمة إذا لم يشكرها. وغمصت عليه قولا قاله، أي عبته عليه. وقد صرح اللعين بهذا المعنى فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76]. {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61]. {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 33] فكفره الله بذلك. فكل من سفه شيئا من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله عليه السلام كان حكمه حكمه، وهذا ما لا خلاف فيه. وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر، حسد إبليس آدم، وشح آدم في أكله من الشجرة. وقال قتادة: حسد إبليس آدم، على ما أعطاه الله من الكرامة فقال: أنا ناري وهذا طيني. وكان بدء الذنوب الكبر، ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة، ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه. الثامنة: قوله تعالى: {وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} قيل: كان هنا بمعنى صار، ومنه قوله تعالى: {فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}. وقال الشاعر: أي صارت. وقال ابن فورك. كان هنا بمعنى صار خطأ ترده الأصول. وقال جمهور المتأولين: المعنى أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة. قلت: وهذا صحيح، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحيح البخاري: «وإنما الأعمال بالخواتيم». وقيل: إن إبليس عبد الله تعالى ثمانين ألف سنة، وأعطي الرياسة والخزانة في الجنة على الاستدراج، كما أعطى المنافقون شهادة أن لا إله إلا الله على أطراف ألسنتهم، وكما أعطي بلعام الاسم الأعظم على طرف لسانه، فكان في رئاسته والكبر في نفسه متمكن. قال ابن عباس: كان يرى لنفسه أن له فضيلة على الملائكة بما عنده، فلذلك قال: أنا خير منه، ولذلك قال الله عز وجل: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ} [ص: 75] أي استكبرت ولا كبر لك، ولم أتكبر أنا حين خلقته بيدي والكبر لي! فلذلك قال: {وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} [ص: 74]. وكان أصل خلقته من نار العزة، ولذلك حلف بالعزة فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] فالعزة أورثته الكبر حتى رأى الفضل له على آدم عليه السلام. وعن أبي صالح قال: خلقت الملائكة من نور العزة وخلق إبليس من نار العزة. التاسعة: قال علماؤنا- رحمة الله عليهم-: ومن أظهر الله تعالى على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالا على ولايته، خلافا لبعض الصوفية والرافضة حيث قالوا: إن ذلك يدل على أنه ولي، إذ لو لم يكن وليا ما أظهر الله على يديه ما أظهر. ودليلنا أن العلم بأن الواحد منا ولي لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنا، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنا لم يمكنا أن نقطع على أنه ولي لله تعالى، لأن الولي لله تعالى من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالايمان. ولما اتفقنا على أننا لا يمكننا أن نقطع على أن ذلك الرجل يوافي بالايمان، ولا الرجل نفسه يقطع على أنه يوافي بالايمان، علم أن ذلك ليس يدل على ولايته لله. قالوا: ولا نمنع أن يطلع الله بعض أوليائه على حسن عاقبته وخاتمة عمله وغيره معه، قال الشيخ أبو الحسن الأشعري وغيره. وذهب الطبري إلى أن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم، وهم اليهود الذي كفروا بمحمد عليه السلام مع علمهم بنبوته، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم. العاشرة: واختلف هل كان قبل إبليس كافر أو لا؟ فقيل: لا، وإن إبليس أول من كفر. وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن وهم الذين كانوا في الأرض. واختلف أيضا هل كفر إبليس جهلا أو عنادا على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره. فمن قال إنه كفر جهلا قال: إنه سلب العلم عند كفره. ومن قال كفر عنادا قال: كفر ومعه علمه. قال ابن عطية: والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء.
|